-" أمى ، أين وضعتى القميص الأزرق ؟"
قلتها وأنا منهمك فى إعداد حقيبة سفرى ، وبرغم بعض الضيق لفكرة الغربة والبعد عن الأهل ،كان تلهفى لخوض تجربةٍ جديدة ينسينى ضيقى وهمى ، فالإنتقال إلى بلد ٍآخر له متعته ، فهو إنتقال بالجسد والروح ، وقبل أن يكون إنتقال من بلدٍ لبلد أو بيتٍ لبيت ، فهو إنتقال من حياةٍ لحياة ، حزمت حقائبى ، سَلـَّمتُ على أهلى ، وانصرفت محملا بفيض دعوات و أمنيات بالتوفيق والسداد .
بعد رحلة سفر طويلة بعض الشيء ، وصلت إلى بيتى الجديد ، بناية تتكون من عشر طوابق ، تبعد عن الكلية خطوات قليلة ، دلفتُ من باب البناية ، و ضغطت على زر المصعد لأستدعيه ،
- طالع لمين يا أستاذ ؟!
إلتفت لأرى مصدر الصوت ، فإذا برجل مهلهل الثياب ، متوسط القامة ، قمحىُّ البشرة ، ريفىُّ اللكنة ، متوسط العمر ، لكنَّ من الواضح أن شقاء الحياة أعطاه عمرا ً فوق عمره ، فعرفت على الفور أنه بواب البناية
- أنا الدكتور عبدالرحمن ، الساكن الجديد
- أهلا يابيه ، اتفضل اتفضل
عبارته حملت الكثير من الترحيب ، فشتان بينها وبين لهجة المخبر التى إستوقفنى بها ، قررت أن أستغل الموقف وأبدأ فى بناء أولى لبنات علاقتى به
- إسم حضرتك إيه ؟
- أنى " السيد " يا بيه
- عاشت الأسامى يا عم "السيد" ، تؤمرنى بأى حاجة
- الله يخليك يا بيه ، عايز سلامتك
- طيب سلامو عليكو
أغلقت باب المصعد ، وتوجهت إلى شقتى مباشرة ، بدلت ملابسى ، ورُحتُ فى نوم عميق
دقت الساعة لتعلن عن وصولها للثامنة صباحا ، قمت من نومى ، توضأت وصليت ركعتى الضحى ، ارتديت ملابسى و انطلقت إلى الكلية لأبدأ يومى الدراسى ، آآه ، نسيت أن أعرفك بنفسى ، أنا طالب فى السنة الأخيرة فى كلية طب الأسنان ، ودراستى تتميز عن دراسة أى طالب فى كلية أخرى ، فدراستى مزيج من العلم النظرى و التطبيق العملى ، بمعنى أننى أحضر المحاضرات فأكون فيها طالبا بكل ماتحمله كلمة طالب من معنى ، ثم أدخل العيادة فأتحول إلى طبيب أسنان يعالج المرضى ولا يمت إلى الدراسة بصلة ،، نظام ممتع وشيق ، لكنه مرهق لأبعد الحدود ..
مرت الأيام ، وأنا أسير فى عجلة الحياة ، أتأقلم معها وأحاول أحيانا أن أجعلها تتأقلم معى ، ازدادت علاقتى بعم السيد وتوطدت ، تعرفت إلى أسرته ، والتى تسكن معه فى الغرفة التى تقبع فى مدخل البناية ، عم السيد لديه خمس بنات ، ثلاث منهن يدرسن فى مراحل تعليمية مختلفة ، ورضيعتين ، زوجته إمرأة طيبة ودودة ، أتعامل معهم باحترام وتقدير به بعض التعاطف ، ويبادلونى جميعهم احتراما وتوقيرا ..
فى يوم من الأيام وأنا راجع من دراستى بعد يوم حافل
- سلامو عليكو ياحاجَّة ، سلامو عليكو يا عم السيد
- وعليكم السلام يا دكتور ، لو سمحت أنا عايز منك طلب
- إتفضل
- عايزك تعملى طقم أسنان آكل عليه ، لأنى مِخَلـَّع معظم أسنانى ، ومابعرفش آكل خالص
طلبت منه أن يفتح فمه لأ ُقيِّم حالته ، وليتنى ما طلبت ذاك الطلب ، بإختصار شديد فمه أشبه بـ " خرابة مهجورة " ، ماتبقى من أسنانه أقل بكثير مما فُقد ، الحالة مستعصية لأبعد الحدود ، فمن الواضح أن إختراع " فرشاة الأسنان " لم يصل بعد إلى حدود معرفته ، تحاملت على نفسى لأخفى إشمئزازى ، وأعطيته موعد يأتينى فيه إلى الكلية ، وأعلمته أن العمل فى حالته سيستغرق أربع أو خمس جلسات ، تركته وانصرفت وأنا أسمع دعواته ودعوات زوجته لى ...
فى اليوم المقرر لبدء العمل فى خرابة عم السيد ، أتى فى موعده فباشرت خطوات عملى ، وبينما أنا أعمل ، أتبادل معه أطراف الحديث ، حكى لى عن ظروف عمله الشاقة ومرتبه الذى لا يتجاوز الثلاثمائة جنيه ، حكى لى عن بناته و أحلامه فى تزويجهن ، وتوفير حياة سعيدة لكل واحدة منهن ، فهو لا يريد لإحداهن أن ترى ما رآه هو فى الحياة ، حديثى معه غاية فى الامتاع ، فهو يجسد لى حياة طبقة مطحونة تلهث وراء رزقها ، تقضى عمرها كله فى محاولة البقاء على قيد الحياة ، فقط ..
توالت الجلسات ، وعم السيد يأتينى إلى الكلية لأكمل عملى ، وأقابله فى المساء فى بنايتنا عندما أعود ، استمر الحال هكذا لمدة أسبوعين تقريبا ، سمعت فيها قدرا مهولا من عبارات الثناء والعرفان من عم السيد وزوجته وبناته ، حتى أتى موعد الجلسة الأخيرة والتى من المفترض أن أسلم الطقم فيها لعم " السيد " ، وبالفعل أتى فى موعده فألبسته الطقم ، أجريت فحوصاتى لأتأكد من جودة العمل ، ثم وقفت ألقى نظرة على " الخرابة المهجورة " بعد أن تم تعميرها بفضل الله ، تحول جذرى فى الشكل والمضمون ، الفم أصبح مرصعا بالأسنان التى أعادت له كثيرا من وقاره وجماله ، حتى ولو كانت الأسنان صناعية والتغيير بها ظاهرى والذى لن يصل أبدا إلى روعة خلق الله ، إلا أنها تقليث للفجوة الواسعة بين وجود خلق الله وبين عدم وجود شيئ على الاطلاق ، سألته عن رأيه ، فرسم على وجهه إبتسامة أنستنى كل تعبى معه ، فإبتسامة المريض دواء للطبيب ...،
أعطيته التعليمات والإرشادات ، طلبت منه أن يسلم على أسرته ، شكرنى بشدة ودعا لى ، ثم إنصرف إلى البيت ، وانصرفت أنا لإستكمال عملى ...
ساعات مرت أنجزت فيها الكثير من المهام ، فى طريق عودتى للبيت تذكرت عم " السيد " فأخذت أتخيل مشهد أولاده وهم مجتمعون حوله سعداء بمظهره الجديد ، ومستمتعون برؤية الحياة تدب فى فم والدهم ، تخيلت وابل دعواتهم التى تنتظرنى عند وصولى للبيت ، ارتسمت على وجهى بسمة زهو وانتصار وكأنى قائد جيش سحق عدوه وسجل لتوه إنتصارا تاريخيا ، وصلت إلى البيت ، صعدت سلالم المدخل ، لكن على غير العادة ، لا أحد من أسرة عم " السيد " موجودا ، باب الغرفة مغلق ، مما زاد من قلقى ، ألقيت السلام بصوت عالى ، مرت لحظات لم يأت ِ فيها أى رد ، فتصاعدت وتيرة الشك عندى ، عاودت إلقاء السلام ، وانتظرت قليلا ...
ثوان ٍ أخرى مرت ، وإذ بزوجة عم " السيد " تخرج من الغرفة ، فصعقت عند رؤيتها ، فأنا لم أرها من قبل فى هذه الحالة ، علامات خوف شديد تعتلى وجهها ، ونظرة تحمل فى طياتها كثير من الحسرة والعتاب ، و..
- " إنت عملت فيه إيه يا دكتور ؟!! "
قالتها المرأة بصوت متقطع ونبرة أشبه بما أراه فى أفلام الأبيض والأسود عندما تهاجم البطلة الرجل الشرير وتصرخ فى وجهه " انت اللى قتلت بابا "
فى هذه اللحظة تجمدت الدماء فى عروقى ، وضلت كريات الدم الحمراء طريقها فى الشرايين ، و نسيت أجزاء جسدى مهامها ، وكأن الشلل أصابها
- ماله عم السيد يا حاجة ؟!!
- انت عملت فيه ايه ، ده من ساعة ما جه والعيال قافلين على نفسهم الأوضة وبيعيطوا ، ماكان بيجيلك كل يوم وبيرجع كويس ، عملتله إيه المرة دى ؟
بيعيطوا ؟! كويس ؟! عملت إيه ؟!! أخذت الكلمات تتردد فى ذهنى ، وإعتقاد بأن هناك كارثة كبرى قد حدثت ..
خرجت البنت الكبرى من الغرفة والدموع تملأ عينيها ، وتنظر إلى نظرة كادت أن تقتلنى ، ثم بصوت متقطع سالتنى
- إنت عملت فى بابا إيه ؟!
لم اتمالك شعورى إلا وأنا أصيح فيهم بما أوتيت من صوت عال
- إنطقوا ، فين عم السيد ؟! ، إيه اللى حصل له ، إنطقوا ..
لم أنتهى من السؤال ، إلا وقد إكتسى وجه زوجة البواب بالرعب ، أشارت إلى البوابة ، وقالت بلهجة مرتعبة
- أهو جه أهو ..
قالتها ثم تركتنى هى والفتاة وانطلقتا مسرعتين نحو الغرفة ، وأغلقتا عليهما الباب ، إلتفت أنا نحو البوابة وأنا متصور أنى سأرى مسخا بشريا مقبل علي ، له قرون شيطان ، أو تسيل منه الدماء ، و مخه يتدلى خارج جمجمته ، ضربات قلبى تنتفض بشدة ، وماتبقى من دمى توجه إلى وجهى فجعله قطعة من اللحم ..
كل ذلك توقف فجأة ، فكل ما رأيته هو عم السيد كما تركته بشحمه ولحمه ، بلا زيادة أو نقصان ، إبتسامته تسبقه وأسنانه الجديدة أكسبته الشكل الجميل الذى تركته به فى الصباح .
- إزيك يا دكتور
- إزيك مين ؟!!! إنت كويس يا عم السيد ؟!! قولى إيه اللى حصلك ؟!!
- أنى زى الفل الحمد لله و الطقم عال الـ....
لم أستمع لبقية كلامه ، فقد تركته وتوجهت مباشرة إلى الغرفة التى تختبئ فيها الزوجة والبنات ، فتحت الباب بعنف ، دخلت وأنا عابس الوجه فلابد أن هذا مقلب سخيف قاموا به لإفزاعى على سبيل الدعابة والمزاح ، لكن حيرتى تفاقمت عندما وجدتهم لا يزالون يبكون
- انتوا هاتجننونى !!! مالكو فيه إيه ؟! بتعيطوا ليه ؟!! ما الراجل زى الفل أهو ، وعملتله الطقم اللى انتو كلكم كنتو مستنيينه
- يا دكتور إنت مش شايف فيه إيه ؟!! ده بقه بقى فيه سنان
قذفتنى الزوجة بتلك العبارة وهى تبكى رعبا ، تلتها فى الحديث الإبنة الكبرى والتى فهمت كلماتها بشق الأنفس بسبب هستيرية بكائها
- إنت جبتلو السنان دى منين ؟! جبتهالو منين ؟!!أبويا بُقُّه بقى فيه سنان
صوت قهقهة عم " السيد " أسمعها من خارج الغرفة ، بكاء " المهابيل الأربعة " مستمرٌ بلا توقف ، كرات دمى الحمراء إنتظمت فى مرورها من جديد ، ضربات قلبى عادت تعزف بطبيعية ، مفاصلى فقدت الأدرينالين فكادت أن تتركنى أهوى على الأرض ، إنسحبت من الغرفة دون أن أنبس ببنت شفه أو أفكر حتى فى الرد عليهم ، دخلت المصعد ، أغلقت الباب ، وارتميت على الأرض أحاول كبح جماح نوبة الضحك المرضية التى سيطرت علي ، وصورة القائد الذى سحق عدوه قد تحولت إلى صورة بهلوان بأنف أحمر ، يتقاذف كراته البلهاء الملونة فى الهواء ...
تمت
هناك 14 تعليقًا:
أضحك الله سنك
أنا على بالي بواب العمارة فقد عقله من السعادة، أو أصبح قاسيا على أهل بيته وشاف نفسه، أو راح أتجوز على مراته، ههههههههه
وبالنهاية مهابيل أربعة ، لا حول و لا قوة إلا بالله.
أ.لطفية كلنتن
حرام عليك يا عبد الرحمن
وقعت قلبى معاك
هو فى لسه فى الزمن ده ناس كدا
لاحول ولا قوة الا بالله
هما ماشافوش حاجه اسمها تليفزيون
بجد بجد ربنا معاك فى الموقف ده
وادينى عنوانك علشان انا كمان محتاجه طقم سنان
ومتخافش انا بناتى خريجة الكليه اللى جنبك
يعنى مش هايعضوك
gamda moot ya 3abdo ela el amam
السلام عليكم ..
كل سنه و انت طيب
شدتنى القصه جميله و ظريفه جدا ..
تقديرى و تحياتى لك
ههههههههههه تصدق انى قولت عم يسد مات والله قولت كده وطبعا انت كنت هاتخش فى مشاكل وتترجانا اننا ندعيلك وىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىى بس الحمدلله ربنا يكرمك يا عبدالرحمن بس انت ليه مابتعلقش على الاشعار بتاعتى؟؟؟؟؟؟ اتمنىانك تقول رايك عشان حتى لو فى حاجه اصلحها فى الحاجات الجايه ياريت تعلق عليهم سلام عليكم
انا قلت الراجل بلع الطقم
ربنا معاك
بس بجد جامده جدا :)
أ.لطفية
كل ما ذكرتيه هيـِّن أستاذتى
هبلهم فاق الحدود
شكرا لمرورك
الفراغ
هههههههه ، أنا برضه سألت نفسى السؤال ده ، هو لسة في كده ؟!!!!
هههههه
الحمد لله الذى عافانا ...
بخصوص الطقم فنهار الهنا ، ده أنا أجيب العدة وآجى لحضرتك ...
ربنا يبارك فى حضرتك ويديكى الصحة والعافية ...
آمين
إسلام الكحكى
ده من ذوقك يا حبيبى
ربنا يخليك ليا
rovy
وحضرتك طيبة
شكرا جزيلا لمرورك الكريم
عبد الله
حاضر ياحبيبي
هدخل مدونتك حالا وأعلق على أشعارك
معلش أنا مقصر فى حقك بس فعلا ظروف الدراسة بقى ...
ربنا يبارك فيك
dr_coval
ماهو فعلا دى أول حاجة جت فى دماغى ...
ربنا يسترها على عبيده
ههههههه
ربنا يكرمك دكتورة
نورتى
ربنا ستر يا عم الحج ... يمكن علشان ما كانش بياكل علي اسنانه وفجاه باه بياكل كتير .. فهما قلقوا .. ربنا يستر ويعافينا
بصراحة أنا أخدت مقلب كبيييير وأنا أقرأ القصة وكنت متعايش معاها لأبعد حد
بصراحة وكأنى مكانك بالضبط وأقول يا رب يا ترى عبد الرحمن عمل إيه فى الراجل
وما إن كملت حتى إنفجرت فى الضحك حتى خفت أن يسمعنى من يجلسون بجوارى
وأنا أتسائل هو لسه فيه ناس من العينة دى ؟؟
الظاهر إن فيه فعلا لكن مطحونين فى دوامة الحياة يصارعون على البقاء وأعتقد أنهم شريحة منسية فى مجتمعنا
أضحك الله سنك يا دكتور وبارك الله فيك وجزاك الله خيرا
إرسال تعليق