الجمعة، 21 نوفمبر 2008

غربة ...



أجبرتنى الظروف على أن أذهب بعيدا ...
لم يترك لى حق الإختيار ...
كنت أعلم انه سيأتى اليوم الذى فيه سأبتعد ...
لكنى لم أتوقع أن يأتى بهذه السرعة ...
ذهبت اليهم وأخبرتهم ...
لا بد من الغربة هذا العام ...
لم أجد منهم اعتراضا ...
فهم واثقون بأنى فكرت ألف مرة قبل أن أتخذ هذا القرار ...
ذهبت بعيدا ، وبدأت فى التأقلم على العيش وحيدا ...
لم أكن أعلم أن الأمر سيكون بهذه الصعوبة ...
أصبحت الدقائق فى غربتى ساعات ...
أشعر أن أيام الأسبوع صارت ألف يوم ...
أفتقد هناك أشياءا لم أكن أشعر بوجودها حتى ...
أصبحت أشتاق الى صوت ابى وهو يوقظنى عند الفجر ...
أستيقظ كل يوم ، أنظر فى الساعة التى تعدت السابعة صباحا ، فتتملكنى رغبة فى البكاء ...
منذ أن ذهبت الى غربتى وحتى هذه اللحظة لم أصلى الفجر فى المسجد ...
لم أكن أدرك أن إيقاظ أبى لى نعمة تستوجب أن أشكر الله ألف مرة عليها ...
أصبحت أشتاق الى إبتسامة أمى عندما أعود ، وسؤالها الذى كان دوما يدفعنى للضحك من صميم قلبى" انت جيت ؟! "...
عندما أرجع من كليتى الآن ، أفتح الباب فلا أجد أمى وهى تبتسم ... أدخل سريعا الى غرفتى ... أحاول أن أشغل نفسى بأى شيئ حتى لا أفكر فيها ...
أصبحت أشتاق الى رفقة أصدقائى فى رحلة الرجوع من الكلية كل يوم ...
أصبحت اشتاق الى الحديث معهم ...
أصبحت أشتاق الى حديث صديقى محمد الساخر عن الكلية وما يحدث فيها ... كان كلامه ينسينى كل همومى ، ويخرجنى من الضيق والحزن الذى كان يسيطر على فى بعض الأحيان ...
الان أصبحت همومى تتراكم بداخلى بلا مخفف عنى ...
أصبحت أشتاق الى إخوتى ...
لم أعد أراهم الا ساعات قليلة فى يوم واحد من ايام الأسبوع ...
لم أكن أعلم أنى أحبهم إلى هذه الدرجة ...
لا أتوقف عن التفكير فيهم وفى أمى وأبى ...
الآن دخلت أشياء جديدة فى قاموس حياتى ، لم يكن لها وجود من قبل ...
الطعام ، النظافة ، كانت أشياء منتهية بالنسبة لى من قبل ...
أصبحت الآن من مسئولياتى ...
ليست المشكلة فى التنظيف أو الطهو أو أيا كان ...
فقد تربينا على أن نتأقلم على أى وضع ...
لكن المشكلة فى اننى حرمت من الشعور بأن هناك من يهتم لأمرى ..
وأن هناك من يتعب من أجل راحتى ...
انها طبيعة الإنسان ... أن يفرح عندما يجد من يحمل عنه أعبائه ، ويفرح أيضا عندما يحمل هو عبء من يحب ...
طوال غربتى و أنا أتذكر كلمات صديقى عماد فى موضوعه الملهم
" أنفاسهم " ...
حقا من المستحيل أن نحصى عُشر أنعم الله علينا ...
غربتى حتى الآن علمتنى الكثير ...
يكفى أنها جعلتنى أكتشف بعضا من أنعم الله التى كنت غافلا عنها ...
غدا سيبدأ أسبوع جديد من هذه الغربة اللعينة ...
عزائى فيها أنها فى سبيل الله ...
أننى أصبحت أكثر التزاما فى كليتى ...
أصبحت أكثر انضباطا فى مواعيدى ...
أصبحت أجد الوقت الكافى لأذاكر ...
عزائى فيها أننى أفعل ذلك برا بأبى وأمى ...
عزائى فيها عبارة أبى التى دوما يرددها
" ستزول كل الآلام ويبقى الأجر "

لكنى مازلت مؤمن أنها غربة لعينة ...

الجمعة، 7 نوفمبر 2008

كله خير



بمجرد دخولى عامى الدراسى الرابع فى الكلية ، أنتقل من مرحلة التدريب والتعلم فى المعامل الفنية والتى كل تعاملاتى بها تكون مع الجمادات ، الى مرحلة التدريب والتعلم فى العيادات والتى يصبح كل تعاملى فيها مع المرضى من بنى البشر ، وفى بداية العام تبدأ رحلة البحث عن المرضى ، والتى من وجهة نظرى أنها رحلة شاقة ومعقدة ومهينة الى أبعد الحدود ، لكن كما يقولون أن المضطر يركب الصعب ، بدأت فى البحث عن مريض بلا أسنان ، لأن المطلوب منى هو عمل طقم لمريض خلال الفصل الدراسى الأول ، أصبح إيجاد مريض بلا أسنان هو شغلى الشاغل ، وعلى غرار أفلام جيمس بوند أو قصص أدهم صبرى ، بدأت المرحلة الأولى من خطة البحث وهى أن أسير فى الكلية وعينى تتفحص أفواه من فيها تبحث عن المشتبه به ، لكن مر الأسبوع الأول بلا نتيجة ، حضرت السكشن فوجدت أن بعضا من زملائى حصلوا على مبتغاهم وبدأوا فى العمل ، لم أكترث كثيرا لهذا الأمر ، فمازال أمامى الكثير من الوقت ، بدأت المرحلة الثانية وهى أن قمت بالاتصال ببعض معارفى فى طنطا أسالهم عن مريض بالمواصفات التى ذكرتها ، حتى رد على أحدهم بأنه يعلم إمرأة تريد أن تركب طقم ، وأنه سيرد على فى أقرب وقت ، مر يوم ويومان وثلاثة أيام ، لكن بلا رد ، أوشك الأسبوع الثانى على الانتهاء ، لم يتبق الا يوم واحد على موعد السكشن ، فاتصلت بهذا الرجل لأعلم منه ان كان سيحضر لى أحدا أم لا ، فلم يرد على ، اتصلت به فى وقت آخر فلم يرد على أيضا ، ففقدت الأمل فى أن أبدأ بالعمل هذا الاسبوع ، ذهبت الى السكشن ، فوجدت أن عددا أكبر من الزملاء بدأ فى العمل أيضا ، أما أنا فوقفت بلا هدف يذكر ، وشعور بالحنق يسيطر على ، فخطة البحث التى اتبعتها أثبتت فشلها الذريع ، وإحساسى بأن الوقت يمر بلا نتيجة كان سيئا لأبعد الحدود ، وبما أنى لم أستطع الحصول على مريض ، فقد أصبح أمامى حلان ، إما أن أنزل أتجول فى أنحاء الكلية واتناول افطارى وأشرب كوبا من الشاى الى أن ينتهى موعد السكشن ، وإما أن أقف مع أصدقائى فى العيادة وأقوم بمساعدتهم ، بالطبع اخترت الحل الثانى عملا بالمثل "نص العمى ولا العمى كله " ، حقيقة استمتعت بالعمل معاهم ، ومساعدتهم أزاحت عنى كثيرا من شعور الضيق الذى انتابنى ، انتهى السكشن ، ومنه قررت أن أنتقل الى المرحلة الثالثة والأخيرة من الخطة ، وهى أن أذهب الى فني معمل الكلية ، وأطلب منه بعض المساعدة ، فجيمس بوند وأدهم صبرى فشلا حتى هذه اللحظة فى رحلة بحثهما ، مر يومان ووجدت فنى المعمل يتصل بى ، لم أستطع أن أرد عليه لأنى كنت فى سكشن مادة التقويم ، عاود الاتصال أكثر من مرة ، فاستأذنت المعيد وذهبت اليه ..
- "ايه يادكتور مابتردش عليا ليه ؟"
- "معلش يا أستاذ/.... كنت فى سكشن "
- " انا عملت اللى عليا وجبتلك مريض واتصلت بيك كتير ، بس انت ماردتش عليا ، فاديته لواحدة زميلتك بتدور على مريض هى كمان "
كم تمنيت فى هذه اللحظة بالذات لو أن القتل حلال فى الاسلام ، و أحسست ببراكين من الغضب توشك على الانفجار ، وعبرت عن هذا الغضب بابتسامة صفراء وتمتمة بكلمة "خير خير"
- " ده أنا كنت جايبلك حالة حلوة أوى"
- " مفيش مشاكل تتعوض ان شاء الله متشكرين يا أ. .... تعبتك معايا "
تركته وانصرفت ، وأنا أدعو الله عز وجل أن ييسر لى أمرى ، أوشك الأسبوع الثالث على الانتهاء ، ولم يتبق الا يوم واحد على السكشن ، لكن فرج الله أتى بعد أن ضاقت على الأرض بما رحبت ، وجدت صديقى محمد يقبل على و :
- " انت فين ياعم أنا بقالى ساعة بدور عليك "
- " انا كان عندى سكشن ، خير "
- "خير ان شاء الله ، لقينالك مريض ، ومحمد .. ماسكهولك فوق "
تهللت أساريرى بشدة ، فأنا كنت على ايمان بأن الفرج سياتى وها قد أتى بعد طول انتظار ، انطلقت أنا وصديقى وتوجهنا الى المريض ، أشار محمد الى رجل يجلس فى قاعة الانتظار وأخبرنى أن ذاك هو ، توجهت ناحيته .
- " سلامو عليكو ياحاج "
- " عليكم السلام "
أردت أ، أسلم عليه لكنى انتبهت أن يده بها حرق شديد أتى على أصابعه فأصبحت يده بلا أصابع
- " أنا د. عبد الرحمن ، وان شاء الله أنا اللى هشتغلك "
- " أجيلك امتى ؟"
- "بكرة الساعة 9 ان شاء الله "
تركته وانصرفت وعقلى منشغل بالحرق الذى فى يديه ، فأنا أعلم أن أصحاب الإعاقات عافاكم الله يحتاجون لمعاملة خاصة ، لكنى طمأنت نفسى بأن هذه الاعاقة ستوجد فى قلبى رحمة تجاهه ، فيصبح عملى طاعة لله .
ذهبت الى الكلية يوم السكشن و كلى طاقة وحيوية ، ذهبت فى موعدى ، ومعى كل أدواتى ، وجهزت المكان الذى سأعمل فيه ، وجلست أنتظر ، لكن الرجل لم يأتى ، قلت فى نفسى عساه وجد صعوبة فى المواصلات ، ولا داعى للقلق ، طال الانتظار ولم يأتى ، خرجت واتصلت به فى بيته ، ردت عليه ابنته
- " السلام عليكم ، الحاج .... فين ؟ "
- " مين حضرتك ؟ "
- " أنا دكتور عبد الرحمن اللى هعمله الطقم "
- " ده هو راح الغيط والله "
- " الغيط ؟؟؟ المفروض ان فى معاد بينى وبينه النهاردة "
- " لا ده هو مش هاييجى عندكم النهاردة "
يا الله ، لم أقصر فى شيئ ، اجتهدت فى البحث ، أتيت فى موعدى بعد سفر طويل ، أدواتى كاملة ، جهزت مكان عملى .... فهل أتساوى بمن ينام فى بيته ؟!
مرت على ذهنى بعض من آيات القرآن ، التى كانت لى خير معين على ان أجتاز هذه الأزمة ، لكن الآية التى أخذت تترد فى ذهنى هى " وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم " أنا أعلم أنه خير لكن لا أعلم كيف هو خير ؟
عملت هذا السكشن أيضا فى مساعدة أصدقائى ، لكنى هذه المرة كنت مشغولا بإيجاد إجابة للسؤال " كيف ما يحدث هذا خير ؟ "
أتانى صديقى محمد الذى احضر لى هذا المريض من البداية ليطمأن على ، ولما علم انه لم يأتى ، حمد الله وأخبرنى بأنه يشتبه أن الحرق الذى فى يده ليس حرقا انما مرض ، اتانى جواب سؤالى فى اليوم التالى من محادثة طريفة مع صديق لى يكبرنى سنا
- " مش المريض اللى جه لمعاذ طلع عنده leprosy "
- " ياراجل ، وعرفت منين "
- " عليه كل العلامات ، والدكتورة قالت لمعاذ طلع المريض بره وماتشتغلوش خالص "
- " أيوة شكله عامل ازاى يعنى ؟ "
- " ماعندوش صوابع ، وماعندوش شعر كتير ، ووشه متشوه "
أقسم بالله أنى أردت فى هذه اللحظة أن أسجد لله شكرا ، فهذا المريض هو نفس المريض الذى اتفقت معه ولم ياتى ... الآن أنا أنا أكثر ايمانا بأن أمر المؤمن كله خير .
سأعطيك نبذة قصيرة عن مرض ال leprosy وهو مايسمى بالعربية بمرض " الجذام " :
هو مرض عندما يصيب المريض فإنه يؤدى الى تآكل أصبعه ، وتشوه وجهه حتى يصبح كوجه الأسد ، وهو مرض عافانا الله واياكم ينتقل عن طريق اللمس ، ويتم عزل أى مريض بهذا المرض فى مستعمرة بعيدة عن المناطق المأهولة بالبشر ، وفى مصر يوجد هنا مستعمرة شهيرة وهى مستعمرة الطور ، وقد حذرنا صلى الله عليه وسلم من هذا المرض
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : " لا عَدوى ، و لا طِيَرة ، و لا هامَّة ، و لا صَفَر . وفِرَّ من المجذوم كما تفرُّ من الأسد " . صحيح البخاري في الطب 5707

ولولا أنى أخاف أن أزعجكم ، لكنت أحضرت لكم بعضا من الصور لهذا المرض

بعد ماحدث أصبحت الآن أكثر طمأنينة وسكينة من ذى قبل ، أنا الآن أكثر تسليما لأمر الله . أنا الآن أؤمن حقا بأن أمر المؤمن كله خير
.
تحديث :
الحمد لله ، منَّ الله على بمريض وبدأت فى العمل معه ... أعتقد أن الفترة الماضية كانت اختبار من الله عز وجل ... أتمنى أن أكون قد نجحت فيه ...