الأحد، 21 ديسمبر 2008

أسود صنعت التاريخ ...والتاريخ يعيد نفسه

عُرف بجبروته وسطوته وديكتاتوريته ، حتى أصبح مجرد سماع إسمه نوعا من أنواع التعذيب النفسى لخصومه أولأى شخص من عامة الشعب ، لا يجرؤ أحدٌ مهما كان على الوقوف فى وجهه أو الإعتراض على كلمته ، الكل يعلم أن مصير المعترض إما إعتقال أو تعذيب أو قتل أو الثلاثة جميعهم ...
فى يوم من الأيام أصدر قرارا جمهوريا بأن على عامة الشعب أن يخرجوا جميعا الى مدينة واسط ليشاهدوا القصر المهيب الذى بناه له رجاله ، وعلى كل من يشاهد القصر أن يدعوا له بالبركة ...
فى وسط هذا الظلم المتجبر والديكتاتورية المطلقة ، خرج مع الجموع المحتشدة الى رؤية القصر رجلٌ ليس كباقى البشر ،
يمشى بخطوات واثقة ...
قلب مطمئن ...
لسان لا يتوقف عن ذكر ربه ...
نفس مؤمنة بأن لكل أجل كتاب ...
ويقين بأن ما أصابه لم يكن ليخطئه ، وما أخطأه لم يكن ليصيبه ...
استغل فرصة إحتشاد هذا الجمع المهيب من البشر ليشاهدوا قصر هذا الجبروت ، شاهدهم وهم مبهورون بهذه الزينة الزائلة ، الكل مدهوش بعظمة البناء ، وروعة التصميم ، الكل مبهور بهذه التحفة المتفردة ...
فى هذه اللحظة الدنيوية ، خرج صوت الحق منه يعلو محاولا به أن يوقظ تلك النفوس الغافلة ، وأن يذكرهم بزوال هذه العظمة عاجلا أو آجلا ، خرجت الكلمات منه منتقاة مصطفاة :
" لقد نظرنا فيما ابتنى أخبث الأخبثين ، فوجدنا أن فرعون شيد أعظم مما شيد ، وبنى أعلم مما بنى ، ثم أهلك الله فرعون وأتى على ما بنى وشيد . ليت الحجاج يعلم أن أهل السماء قد مقتوه ، وأن أهل الأرض قد غروه "
ظلت الكلمات تخرج من فمه النورانى تباعا ، والناس مدهوشون بأن هناك رجل على وجه البسيطة يستطيع أن يتكلم عن الحجاج هكذا ، أشفق عليه أحد السامعين ، نصحه بأن لا يتحدث فى السياسة ، نصحه بان يمشى بجوار الحائط ، نصحه بأن يسكت ليستطيع أن يربى أولاده ، قال له " حسبك يا أبا سعيد ... حسبك " ... فكان رد أبى سعيد عليه واضحا بلا غموض ، صارما بلا تنازلات " لقد أخذ الله الميثاق على أهل العلم ليبيننه للناس و لا يكتمونه " ...
وصل الأمر الى رئيس الجمهورية - الحجاج بن يوسف الثقفى – فدخل فى اليوم التالى الى مجلسه ، الحاشية مرتعبين ، وأهل النفاق توشك قلوبهم أن تتوقف خوفا ، نظر اليهم و وجهه يكاد يتفجر غيظا ، صاح فيهم " تبا لكم وسحقا ... يقوم عبد ٌ من عبيد أهل "البصرة " ويقول فينا ما شاء الله أن يقول ، ثم لا يجد فيكم من يرده أو ينكر عليه !! والله لأسقينكم من دمه يا معشر الجبناء " ثم أمر بالسيف والنطع - وهو قطعة من الجلد توضع تحت المحكوم عليه بقطع الرأس حتى لا يتناثر دمه على الأرض – ثم أمر بالسياف فحضر ...
وكالعادة أرسل الى أبى سعيد بعضا من زوار الليل لينتزعوه من بين أهله ، واتجهت جيوش الأمن المركزى الحجاجى الى بيت أبى سعيد ، وأحضروه الى الحجاج ...
تخيل أنت صورة هذا الموقف ، الحجاج يجلس على عرشه ، حاشيته يحاوطونه ، والسياف واقف متأهب لتنفيذ حكم الإعدام ، الدولة بكل قوتها تقف ضد رجل واحد ، مكبل بالأغلال ، مجرد من كل وسائل القوة ، بالحسابات المادية البحتة ، الحجاج فى موقف القوى العزيز ، وأبو سعيد فى موقف الضعيف الذليل ، وبالحسابات المادية أيضا ، هناك احتمالان لا ثالث له ، إما أن يعتذر أبا سعيد من الحجاج ، ويكتب له وثيقة تأييد يبايعه فيها ويعاهده على ألا يعود لمثلها أبدا ، وإما أن تطير رقبته فى ثوان معدودات ...
لكن الرجل الذى لا يخشى فى الله لومة لائم ، لا يعترف بهذه الحسابات العقيمة ، فهو فى واد آخر ، حيث معية الله عز وجل ، وحيث السكينة التى لا تعطى للخوف فرصة ليتسلل بها لقلبه ..
دخل على الحجاج ، فإذا الأبصار تتجه كلها صوبه ، والقلوب فجأة تصيبها رهبة بمجرد رؤية هذا الرجل الربانى ..
وقع بصر أبى سعيد على السيف والنطع والجلاد ، فحرك شفتيه متمتما ببعض الكلمات ، ثم اقبل على الحجاج وعليه جلال المؤمن وعزة المسلم ، ووقار الداعية الى الله ، فلما رآه الحجاج على حاله هذه هابه أشد الهيبة ، وقال له :" هاهنا يا أبا سعيد .. هاهنا .. ثم ما زال يوسع له ويقول هاهنا .. والناس ينظرون إليه فى دهشة واستغراب حتى أجلسه علي فراشه " **

ثم التفت الحجاج اليه ، وجعل يسأله عن بعض أمور الدين والحجاج يرد عليه بمنتهى الثبات والثقة ، كان يرد عليه بعلم فياض ، وبيان يضاهي به فحول اللغة ..
فقال له الحجاج : " أنت سيد العلماء يا أبا سعيد " ثم دعا بغالية وهى نوع من الطيب ، وطيب بها لحيته وودعه .
ولما خرج أبو سعيد من عنده تبعه حاجب الحجاج وسأله : " يا أبا سعيد لقد دعاك الحجاج لغير ما فعل بك ، وإنى رأيتك عندما أقبلت ورأيت السيف والنطع ، قد حركت شفتيك ، فماذا قلت ؟!"
قال : " لقد قلت : ياولى نعمتى وملاذى عند كربتى إجعل نقمته بردا وسلاما على ّ كما جعلتها بردا وسلاما على إبراهيم " ...
التاريخ يعيد نفسه مرات عديدة ، تختلف كل مرة عن سابقتها ولاحقتها فى الأشخاص و المكان فقط ، وأنا ما كتبت هذه القصة الا لأقرأها أنا قبل أن تقرؤها أنتم ، فإنما نتعلم من هؤلاء النجوم الساطعة ، كيف تكون نفسية كل من يصطفيه ربه ليجعله من أوليائه ، كتبت هذه القصة فى هذا الوقت بالذات لأنى فى أمس الحاجة اليها الآن قبل أى وقت مضى ...
أبو سعيد هو "سيدنا الحسن البصرى " رضى الله عنه وأرضاه ..
صدق مسلمة بن عبد الملك عندما قال : "كيف يضل قوم فيهم مثل الحسن البصرى ؟!"
سيدنا الحسن البصرى أسدٌ فى قافلة الأسود التى صنعت التاريخ ..
أسال الله عز وجل أن يوفقنا لأن نسير على دربه وأن نحذو حذوه ... اللهم آمين
***************************
** مقطع مقتبس من كتاب فى رحاب الاسلام



هناك 6 تعليقات:

nemo يقول...

بس الحجاج مكنش رئيس جمهوريه

الحجاج كان وزير داخليه

الريس وقتها كان عبد الملك بن مروان

جهاد خالد يقول...

رائـعة
بل بديعة

مست في داخلي ماكنت احتاج له أن يُمس

:)

شكر الله لك

وثبتك على الحق

وجعلك من أُسد التاريخ ان شاء الله

IMS يقول...

السلام عليكم ..
امتعتني بالقصة وذكرتني بفائدة الثبات على الحق والقربى من الله ..
شكرا يا فتى !!

ويا نيمو ... بصراحة نورت المحكمة !!
الحجاج ماكانش وزير داخلية .. ممكن تقول عليه كان محافظ !! لو فارقة معاك أوي المناصب .
لكن حقيقة كان هو رئيس جمهورية العراق من حيث السلطة والنفوذ وجبروته أعطاه القوة على شعب العراق الثائر دوما !!

Abd Al-Rahman يقول...

nemo
بداية أرحب بسيادتك ضيفا كريما فى مدونتى المتواضعة ...
ردا على تعليقك فأعتقد أن ims قد صحح لك المعلومة
لكن النقطة الأهم أخى الفاضل ، اننى هنا لست بصدد التأريخ فأنا لست أهلا لذلك ولا أنوى أن أكون ...
أخى الكريم ، أنا أذكر موقف لنستفيد منه لا لنهتم بتفاصيل ليست مهمة من وجهة نظرى .....
تقبل نقدى
لك خالص الإحترام

Abd Al-Rahman يقول...

النجمة الصامدة
جزاكم الله كل الخير على الإطراء والدعاء ، أسال الله لكلينا الفردوس الأعلى
اللهم آمين
دمتى بخير أختى

Abd Al-Rahman يقول...

ims
صديقى العزيز إبراهيم
منورة المدونة يادكترة ، ويارب تكون دايما بخير ، شكرا جزيلا لتوضيحك وتعليقك
دمت فى خيرات