فى يوم ٍمن الأيام وبينما أنا خارج من العيادة استوقفنى رجل ٌمسن ليسألنى عن دكتور "شريف " حيث أنه على موعد معه لكنه منتظره منذ فترة ولم يحضر حتى الآن ، بطبيعية شديدة أخرجت هاتفى واتصلت بصديقى ، فأخبرنى بأنه مريض ولن يستطيع الحضور وأن أعتذر لمريضه ، فأعطيت الهاتف للرجل ليأخذ منه موعدا آخر ، أنهيا المكالمة ، أعطانى الرجل هاتفى وشكرنى بشدة ، وانصرف ...
حتى الآن موقف طبيعى لاشيء فيه ، لكن ماحدث بعد ذلك هو ما جعلنى أكتب هذا الموضوع ، فالرجل بعدما ما مشى بعض خطوات التفت فجأة ثم عاد و اقترب منى وقال لى بصوت خفيض :
" أنا شغال فى الجوازات ، لو حضرتك عايز أى خدمة أنا تحت أمرك " ...
جملة الرجل أحزنتنى بشكل مبالغ فيه ، وكأنها القشة التى قصمت ظهر البعير ، فهى تجسيد واضح لما تحولنا له كمجتمع ، نحسب الأمور بميزان المنفعة وفقط ، طالما أنى ساعدت الرجل فلا بد وأن يرد لى المساعدة ، كثير من المواقف فى حياتنا ستوصلك إلى تلك الحقيقة المرة ، فى السنوات القليلة الماضية تحولنا من "مجتمع تراحمى" إلى " مجتمع تعاقدى " وهى مصطلحات استفاض فى تفسيرها د.عبدالوهاب المسيرى رحمه الله فى كتابه "رحلتى الفكرية"
يقول أن المجتمع التراحمى هو المجتمع الذى تُبنى فيه العلاقات على مبدأ التراحم فيصبح المجتمع وحدة واحدة ، كل الرجال فيه آباء إبنك وكل النساء أمهاته ، فالكل يحرص على بعضه ، الكل يقف بجانبك بلا انتظار ٍ لجزاء أو ثواب ، هذا ماكانت عليه مصر منذ عقود قليلة .
المجتمع التعاقدى على النقيض تماما ، فهو مجتمع يتسم بالفردية البحتة تصل الى الدرجة التى لا تعرف فيها اسم جارك ، وهناك أصدقاء لى بالفعل لا يعرفون شيئا عن جيرانهم ، فى هذا المجتمع كل شيء يحسب بالورقة والقلم ، مساعدتى لك لابد أن تسجلها لأنى سأحتاج أن تردها لى فى يوم من الأيام .
قد يرى كثيرون أنه طالما ارتضى الناس ذلك فما الضير ؟!
الضير هو أن هناك جزء فى نفس الانسان السوي يحتاج إلى غذاء شأنه شأن الجسد ، وغذاء هذا الجزء هو أن تعطى بلا مقابل ، فقط تبذل العطاء ، بدون هذا الغذاء تفقد جزءا من إنسانيتك .
أعتقد أن هذا هو مادفع بيل جيتس أغنى رجل فى العالم سابقا أن يستقيل من منصبه فى شركة مايكروسوفت ليتفرغ لإدارة منظمته الخيرية والتى تعد من أكبر المنظمات الخيرية فى العالم .
ضربت المثال ب"بيل جيتس " لأبرهن على ان العطاء صفة من صفات الانسان السوي ، فما بالك عندما يكون مسلما ؟! أى أنه ملتزم بدين أحد أركانه " الزكاة " ، والزكاة برؤيتى نقود تعطيها بلا مقابل وبدون أن تنتظر شيئا بثمنها ، فحكمة الزكاة أنها تشبع نفسك بصفة العطاء .، لذلك فهى فريضة لا بد وأن تفعلها ، وهى الحد الأدنى لأى مسلم ، ثم بعد ذلك تأتى " الصدقة " ، وهى نفس معنى الزكاة لكنها ليست فريضة ، فهى تركت للناس خيارا ، كل على حسب طاقته ، فالزكاة هى الوجبة الأساسية التى ستذبل و تموت لو لم تتناولها ، بينما الصدقة هى الحلويات والمقبلات و أنواع شتى من المأكولات التى كلما زدت فيها كلما زادت نفسك رقيا و علوا ..
فى حياتى أحاول أن أتعامل مع كل البشر بتلك النفسية ، لا يهمنى ما يعتقده غيرى ، لا أكترث لظن الآخر بى وتريبه من هدية أهديها إياه ، لا أهتم حقا ، فأنا أشبع نفسى ، وأرضى ربى ، أصبحت أمارس و أتعلم فنا من أروع الفنون اسمه " فن العطاء " ...
إقرأ موقف لأعظم الخلق محمد صلى الله عليه وسلم وتأمل معناه :
تروي السيدة عائشة -رضي الله عنها- أنهم ذبحوا شاة، ثم وزعوها على الفقراء؛ فسأل النبي صلى الله عليه وسلم السيدة عائشة: (ما بقي منها؟) فقالت: ما بقي إلا كتفها؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (بقي كلها غير كتفها) (الترمذي)